فصل: من فوائد ابن تيمية في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن تيمية في السورة الكريمة:

سورة العلق:
قال الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
فَصْلٌ:
فِي بَيَانِ أَنَّ الرَّسُولَ صلى صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ بَيَانُ أُصُولِ الدِّينِ وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى ثُبُوتِ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الْمُعَادِ إمْكَانًا وَوُقُوعًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ هَذَا الْأَصْلَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَأَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ وَالسَّمْعِيَّةَ الَّتِي يَهْتَدِي بِهَا النَّاسُ إلَى دِينِهِمْ وَمَا فِيهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَنَّ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا أُصُولًا تُخَالِفُ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ هِيَ أُصُولُ دِينِهِمْ لَا أُصُولُ دِينِهِ. وَهِيَ بَاطِلَةٌ عَقْلًا وَسَمْعًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَبَيَّنَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ قَاصِرُونَ أَوْ مُقَصِّرُونَ فِي مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ. فَطَائِفَةٌ قَدْ ابْتَدَعَتْ أُصُولًا تُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ هَذَا وَهَذَا. وَطَائِفَةٌ رَأَتْ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةً فَأَعْرَضَتْ عَنْهُ وَصَارُوا يَنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ لِسَلَامَتِهِمْ مِنْ بِدْعَةِ أُولَئِكَ. وَلَكِنْ هُمْ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتَّبِعُوا السُّنَّةَ عَلَى وَجْهِهَا وَلَا قَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ. بَلْ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ مِنْ السَّمْعِيَّاتِ مِمَّا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ رَبِّهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ غَايَتُهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِلَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرٍ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ. بَلْ قَدْ يَقولونَ مَعَ هَذَا إنَّهُ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ يعلم مَعْنَى مَا أَخْبَرَ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ هُوَ تَأْوِيلُ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يعلمهُ إلَّا اللَّهُ. وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فَقَدْ لَا يَتَصَوَّرُونَ أَنَّهُ أَتَى بِالْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ كَالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهَذَا مُجْمَلًا وَلَا يَعْرِفُ أَدِلَّتَهُ. بَلْ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ كَالِاسْتِدْلَالِ بِخلق الإنسان عَلَى حُدُوثِ جَوَاهِرِهِ هُوَ دَلِيلُ الرَّسُولِ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يعلم بِالْعَقْلِ كَالْمُعَادِ وَحُسْنِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالصِّدْقِ وَقُبْحِ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ. وَالقرآن يُبَيِّنُ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ. وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِهَا. وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ بِالْعَقْلِ يَعْرِفُ الْمُعَادَ وَحُسْنَ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَحُسْنَ شُكْرِهِ وَقُبْحَ الشِّرْكِ وَكُفْرَ نِعَمِهِ كَمَا قَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ. وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَكُونُ هَذَا فِي فِطْرَتِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ تَحْسِينَ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحَهُ إذَا صُنِّفَ فِي أُصُولِ الدِّينِ عَلَى طَرِيقَةِ الْنُّفَاةِ الْجَبْرِيَّةِ أَتْبَاعِ جَهْمٍ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ مَا يَقوله الْمُبْطِلُونَ يَقولونَ بِفِطْرَتِهِمْ مَا يُنَاقِضُ مَا يَقولونَهُ فِي اعْتِقَادِهِمْ الْبِدْعِيِّ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ الْجَدِّ الأعلى أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْفَرَجِ ابْنَ الْجَوْزِيِّ يُنْشِدُ فِي مَجْلِسِ وَعْظِهِ الْبَيْتَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ:
هَبْ الْبَعْثَ لَمْ تَأْتِنَا رُسُلُهُ ** وَجَاحِمَةُ النَّارِ لَمْ تُضْرَمْ

أَلَيْسَ مِنْ الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَقِّ ** حَيَاءُ الْعِبَادِ مِنْ الْمُنْعِمِ؟

فَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذَا بِأَنَّهُ مِنْ الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَقِّ حَيَاءُ الْخلق مِنْ الْخَالِقِ الْمُنْعِمِ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ شُكْرَهُ وَاجِبٌ مُسْتَحَقٌّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَعِيدٌ وَلَا رِسَالَةٌ أَخْبَرَتْ بِجَزَاءِ. وَهُوَ يُبَيِّنُ ثُبُوتَ الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَا عَذَابَ. وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَنَتِيجَةُ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ انْخِفَاضُ الْمَنْزِلَةِ وَسَلْبُ كَثِيرٍ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي كَانَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُعَاقَبُ بِالضَّرَرِ. وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْوُجُوبَ وَالِاسْتِحْقَاقَ يعلم بِالْبَدِيهَةِ. فَتَارِكُ الْوَاجِبِ وَفَاعِلُ الْقَبِيحِ وَإِنْ لَمْ يُعَذَّبْ بِالْآلَامِ كَالنَّارِ فَيُسْلَبُ مِنْ النِّعَمِ وَأَسْبَابِهِ مَا يَكُونُ جَزَاءَهُ. وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النِّعْمَةَ بَلْ كَفَرَهَا أَنْ يُسْلَبَهَا. فَالشُّكْرُ قَيْدُ النِّعَمِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْمَزِيدِ. وَالْكُفْرُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ مُوجِبٌ لِلْعَذَابِ وَقَبْلَ ذَلِكَ يُنْقِصُ النِّعْمَةَ وَلَا يَزِيدُ. مَعَ أَنَّهُ لابد مِنْ إرْسَالِ رَسُولٍ يَسْتَحِقُّ مَعَهُ النَّعِيمَ أَوْ الْعَذَابَ فَإِنَّهُ مَا ثَمَّ دَارٌ إلَّا الْجَنَّةُ أَوْ النَّارُ.
قال تعالى: {لَقَدْ خلقنا الإنسان فِي أحسن تقويم ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسفل سافلين إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون} وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ بَيَانَ هَذِهِ الْأُصُولِ وَقَعَ فِي أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ مِنْ القرآن. فَإِنَّ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ مِنْ القرآن {اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ} عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ قِيلَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. فَإِنَّ مَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ يُبَيِّنُ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ {اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ} نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ وَأَنَّ (الْمُدَّثِّرَ) نَزَلَتْ بَعْدُ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي. فَإِنَّ قوله: {اقرأ} أَمْرٌ بِالْقراءة لَا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَبِذَلِكَ صَارَ نَبِيًّا. وَقوله: {قُمْ فَأَنْذِرْ} أَمْرٌ بِالْإِنْذَارِ وَبِذَلِكَ صَارَ رَسُولًا مُنْذِرًا. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قالتْ: «أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ. فَكَانَ لَا يرى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَأْتِي غَارَ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ. ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ. فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقال: اقرأ.
قال: مَا أَنَا بِقَارِئِ.
قال: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقال: اقرأ.
فَقُلْت: مَا أَنَا بِقَارِئِ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقال: اقرأ. فَقُلْت: مَا أَنَا بِقَارِئِ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةُ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقال: {اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق خلق الإنسان مِنْ علق اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الَّذِي عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم}. فَرَجَعَ بِهَا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ. فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خويلد فقال: زَمِّلُونِي. زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ. فَقال لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي. فَقالتْ لَهُ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاَللَّهِ لَا يُخْزِيك اللَّهُ أَبَدًا إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتُعِينَ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتت بِهِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنِ عَمِّ خَدِيجَةَ. وَكَانَ امْرًَا تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ. فَقالتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمٍّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيك. فَقال لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي ماذا تَرَى؟. فَأَخْبَرَهُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى. فَقال لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى. يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُك قَوْمُك. فَقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟.
قال: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ أحد قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْت بِهِ إلَّا عُودِي. وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوَفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ»
.
قال ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ سَمِعْت أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قال أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ: «فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْت صَوْتًا فَرَفَعْت بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءِ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجِئْت حَتَّى هَوَيْت إلَى الْأَرْضِ. فَجِئْت أَهْلِي فَقُلْت: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُونِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} إلَى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}». فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ (الْمُدَّثِّرَ) نَزَلَتْ بَعْدَ تِلْكَ الْفَتْرَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ أَنْ عَايَنَ الْمَلَكَ الَّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءِ أَوَّلًا. فَكَانَ قَدْ رَأَى الْمَلَكَ مَرَّتَيْنِ. وَهَذَا يُفَسِّرُ حَدِيثَ جَابِرٍ الَّذِي رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ كَمَا أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِيرٍ قال: سَأَلْت أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ القرآن.
قال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}.
قلت: يَقولونَ {اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق}. فَقال أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ وَقُلْت لَهُ مِثْلَ مَا قُلْت فَقال جَابِرٌ: لَا أحدثُك إلَّا مَا حَدَّثَنَا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «جَاوَرْت بِحِرَاءِ؛ فَلَمَّا قَضَيْت جِوَارِي هَبَطْت فَنُودِيت فَنَظَرْت عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْت عَنْ شَمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْت أمامي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْت خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا. فَرَفَعْت رَأْسِي فَرَأَيْت شَيْئًا. فَأَتَيْت خَدِيجَةَ فَقُلْت دَثِّرُونِي وَصُبُّوا على مَاءً بَارِدًا فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا على مَاءً بَارِدًا.
قال: فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}»
. فَهَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ الْمُتَقَدِّمَ وَإِنَّ (الْمُدَّثِّرَ) نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ هَبَطَ مِنْ الْجَبَلِ وَهُوَ يَمْشِي وَبَعْدَ أَنْ نَادَاهُ الْمَلَكُ حِينَئِذٍ. وَقَدْ بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ هَذَا الْمَلَكَ هُوَ الَّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَتْ عَائِشَةُ أَنَّ {اقرأ} نَزَلَتْ حِينَئِذٍ فِي غَارِ حِرَاءٍ. لَكِنْ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ أَنَّ {اقرأ} نَزَلَتْ حِينَئِذٍ بَلْ عَلِمَ أَنَّهُ رَأَى الْمَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَدْ يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُ مِنْهُ. لَكِنَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ زِيَادَةَ عَلِمَ وَهُوَ أَمْرُهُ بِقراءة {اقرأ}. وَفِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمَّى هَذَا (فَتْرَةَ الْوَحْيِ) وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عائشة: (فَتْرَةُ الْوَحْيِ). فَقَدْ يَكُونُ الزُّهْرِيُّ رَوَى حَدِيثَ جَابِرٍ بِالْمَعْنَى وَسَمَّى مَا بَيْنَ الرُّؤْيَتَيْنِ (فَتْرَةَ الْوَحْيِ) كَمَا بَيَّنَتْهُ عَائِشَةُ؛ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ جَابِرٌ سَمَّاهُ (فَتْرَةَ الْوَحْيِ) فَكَيْفَ يَقول إنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ؟. وَبِكُلِّ حَالٍ فَالزُّهْرِيُّ عِنْدَهُ حَدِيثُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ؛ وَحَدِيثُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ؛ وَهُوَ أَوْسَعُ عِلْمًا وَأَحْفَظُ مِنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ لَوْ اخْتَلَفَا. لَكِنْ يَحْيَى ذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا سَلَمَةَ عَنْ الأولى فَأَخْبَرَ جَابِرٌ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ مَا نَزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَائِشَةُ أَثْبَتت وَبَيَّنَتْ.
وَالْآيَاتُ آيَاتُ {اقرأ} و(الْمُدَّثِّرُ) تُبَيِّنُ ذَلِكَ وَالْحَدِيثَانِ مُتَصَادِقَانِ مَعَ القرآن وَمَعَ دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ هُوَ الْمُنَاسِبُ. وَإِذَا كَانَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ {اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق خلق الإنسان مِنْ علق اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الَّذِي عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم} فَفِي الْآيَةِ الأولى إثْبَاتُ الْخَالِقِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ. وَفِيهَا وَفِي الثَّانِيَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى إمْكَانِ النُّبُوَّةِ وَعَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. أَمَّا الأولى فَإِنَّهُ قال: {اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق} ثُمَّ قال: {خلق الإنسان مِنْ علق}. فَذَكَرَ الْخلق مُطْلَقًا ثُمَّ خَصَّ خلق الإنسان أَنَّهُ خلقهُ مِنْ علق. وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ يعلمونَ أَنَّ الإنسان يَحْدُثُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ علق. وَهَؤُلَاءِ بَنُو آدَمَ. وَقوله: {الإنسان} هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ النَّاسِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ آدَمَ الَّذِي خلق مِنْ طِينٍ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى الْخَالِقِ تَعَالَى وَالِاسْتِدْلَالُ إنَّمَا يَكُونُ بِمُقَدِّمَاتِ يعلمهَا الْمُسْتَدِلُّ. وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ دَلَالَةِ النَّاسِ وَهِدَايَتِهِمْ وَهُمْ كُلُّهُمْ يعلمونَ أَنَّ النَّاسَ يُخلقونَ مِنْ الْعلق. فَأَمَّا خلق آدَمَ مِنْ طِينٍ فَذَاكَ إنَّمَا عُلِمَ بِخَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِدَلَائِلَ أُخَرَ. وَلِهَذَا يُنْكِرُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ الدَّهْرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِالنُّبُوَّاتِ. وَهَذَا بِخِلَافِ ذِكْرِ خلقهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ. فَإِنَّ ذَاكَ ذِكْرُهُ لِمَا يُثْبِتُ النُّبُوَّةَ وَهَذِهِ السُّورَةُ أَوَّلُ مَا نَزَلَ وَبِهَا تَثْبُتُ النُّبُوَّةُ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا مَا عُلِمَ بِالْخَبَرِ بَلْ ذَكَرَ فِيهَا الدَّلِيلَ الْمَعْلُومَ بِالْعَقْلِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ لِمَنْ لَمْ يَرَ الْعلق. وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ خلق الإنسان مِنْ الْعلق وَهُوَ جَمْعُ (علقةٍ) وَهِيَ الْقِطْعَةُ الصَّغِيرَةُ مِنْ الدَّمِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ نُطْفَةً وَالنُّطْفَةُ قَدْ تَسْقُطُ فِي غَيْرِ الرَّحِمِ كَمَا يَحْتَلِمُ الإنسان وَقَدْ تَسْقُطُ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ يَرْمِيهَا الرَّحِمُ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ علقةً. فَقَدْ صَارَ مَبْدًَا لِخلق الإنسان وَعُلِمَ أَنَّهَا صَارَتْ علقةً لِيُخلق مِنْهَا الإنسان. وَقَدْ قال فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ علقةً فَخلق فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأنثى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فَهُنَا ذَكَرَ هَذَا عَلَى إمْكَانِ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَكُونُ مِنْ التُّرَابِ. وَلِهَذَا قال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خلقناكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} فَفِي الْقِيَامَةِ اسْتَدَلَّ بِخلقهِ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ لِجَمِيعِ الْخلق وَفِي الْحَجِّ ذَكَرَ خلقهُ مِنْ تُرَابٍ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ. وَذِكْرُ أَوَّلِ الْخلق أَدَلُّ عَلَى إمْكَانِ الْإِعَادَةِ. وَأَمَّا هُنَا فَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْخَالِقِ تَعَالَى ابْتِدَاءً فَذَكَرَ أَنَّهُ خلق الإنسان مِنْ علق وَهُوَ مِنْ الْعلقةِ الدَّمُ يَصِيرُ مُضْغَةً وَهُوَ قِطْعَةُ لَحْمٍ كَاللَّحْمِ الَّذِي يُمْضَغُ بِالْفَمِ ثُمَّ تَخلق فَتُصُوِّرَ كَمَا قال تعالى: {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخلقةٍ وَغَيْرِ مُخلقةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} فَإِنَّ الرَّحِمَ قَدْ يَقْذِفُهَا غَيْرَ مُخلقةٍ. فَبَيَّنَ لِلنَّاسِ مَبْدَأَ خلقهِمْ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ بِأَعْيُنِهِمْ. وَهَذَا الدَّلِيلُ وَهُوَ خلق الإنسان مِنْ علق يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ. فَإِنَّ النَّاسَ هُمْ الْمُسْتَدِلُّونَ وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ وَالْآيَةُ. فَالإنسان هُوَ الدَّلِيلُ وَهُوَ الْمُسْتَدِلُّ كَمَا قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} وَقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. وَهَذَا كَمَا قال فِي آيَةٍ أُخْرَى {أَمْ خلقوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}.
وَهُوَ دَلِيلٌ يعلمهُ الإنسان مِنْ نَفْسِهِ وَيَذْكُرُهُ كُلَّمَا تَذَكَّرَ فِي نَفْسِهِ وَفِيمَنْ يَرَاهُ مِنْ بَنِي جِنْسِهِ. فَيَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ كَمَا قال تَعَالَى: {وَيَقول الإنسان أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خلقناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} وَقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خلقهُ قال مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خلق عَلِيمٌ}. وكذلك قال زَكَرِيَّا لَمَّا تَعَجَّبَ مِنْ حُصُولِ ولد عَلَى الْكِبَرِ فَقال: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقرأ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قال كَذَلِكَ قال رَبُّكَ هُوَ على هَيِّنٌ وَقَدْ خلقتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} وَلَمْ يُقَلْ (إنَّهُ أَهْوَنَ عَلَيْهِ) كَمَا قال فِي الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}.
وقال سبحانه: {خلق الإنسان مِنْ علق} بَعْدَ أَنْ قال: {الَّذِي خلق}. فَأَطْلَقَ الْخلق الَّذِي يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَخْلُوقٍ ثُمَّ عَيَّنَ خلق الإنسان فَكَانَ كُلُّ مَا يعلم حُدُوثُهُ دَاخِلًا فِي قوله: {الَّذِي خلق}. وذكر بَعْدَ الْخلق التَّعْلِيمَ الَّذِي هُوَ التَّعْلِيمُ بالقلم وَتَعْلِيمُ الإنسان مَا لَمْ يعلم. فَخَصَّ هَذَا التَّعْلِيمَ الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى إمْكَانِ النُّبُوَّةِ. وَلَمْ يُقَلْ هُنَا (هُدَى) فَيَذْكُرُ الهدى الْعَامَّ الْمُتَنَاوَلَ لِلْإِنْسَانِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ كَمَا قال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى الَّذِي خلق فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فهدى} وَكَمَا قال مُوسَى {رَبُّنَا الَّذِي أعطى كُلَّ شَيْءٍ خلقهُ ثُمَّ هَدَى} لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيمَ الْخَاصَّ يَسْتَلْزِمُ الهدى الْعَامَّ وَلَا يَنْعَكِسُ. وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى إثْبَاتِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ نَوْعٌ مِنْ التَّعْلِيمِ. وَلَيْسَ جَعْلُ الإنسان نَبِيًّا بِأَعْظَمَ مِنْ جَعْلِهِ الْعلقةَ إنْسَانًا حَيًّا عَالِمًا نَاطِقًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا قَدْ عَلِمَ أَنْوَاعَ الْمَعَارِفِ؛ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ أَوَّلُ الْخلق بِأَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْ إعَادَتِهِ. وَالْقَادِرُ عَلَى الْمَبْدَأِ كَيْفَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُعَادِ؟ وَالْقَادِرُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيمِ كَيْفَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَاكَ التَّعْلِيمِ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَا يُحِيطُ أحد مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ؟ وَقال سُبْحَانَهُ أَوَّلًا {عَلَّمَ بالقلم} فَأَطْلَقَ التَّعْلِيمَ وَالْمُعَلِّمَ فَلَمْ يَخُصَّ نَوْعًا مِنْ الْمُعَلِّمِينَ. فَيَتَنَاوَلُ تَعْلِيمَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَمَا تَنَاوَلَ الْخلق لَهُمْ كُلَّهُمْ. وَذَكَرَ التَّعْلِيمَ بالقلم لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَعْلِيمَ الْخَطِّ وَالْخَطُّ يُطَابِقُ اللَّفْظَ وَهُوَ الْبَيَانُ وَالْكَلَامُ. ثُمَّ اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى الْمَعَانِي الْمَعْقولةِ الَّتِي فِي الْقَلْبِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ عِلْمٍ فِي الْقُلُوبِ. وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي نَفْسِهِ ثَابِتَةٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ الذِّهْنِ ثُمَّ يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ وَالْقَلْبُ ثُمَّ يُعَبِّرُ عَنْهُ اللِّسَانُ ثُمَّ يَخُطُّهُ الْقَلَمُ. فَلَهُ وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَذِهْنِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَذْهَانِ وَاللِّسَانِ وَالْبَنَانِ. لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ هُوَ وَأَمَّا الثَّلَاثُ فَإِنَّهَا مِثَالٌ مُطَابِقٌ لَهُ. فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالثَّلَاثَةُ مُعَلِّمَةٌ. فَذَكَرَ الْخلق وَالتَّعْلِيمَ لِيَتَنَاوَلَ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ فَقال: {اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق خلق الإنسان مِنْ علق اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الَّذِي عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم} وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْمَاهِيَّاتِ هَلْ هِيَ مَجْعُولَةٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ مَاهِيَّةُ كُلِّ شَيْءٍ زَائِدَةٌ عَلَى وُجُودِهِ؟ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مَا يُتَصَوَّرُ فِي الذِّهْنِ وَيُوجَدُ فِي الْخَارِجِ. فَإِنْ أُرِيدَ الْمَاهِيَّةَ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الذِّهْنِ. وَبِالْوُجُودِ مَا فِي الْخَارِجِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَالْمَاهِيَّةُ غَيْرُ الْوُجُودِ إذَا كَانَ مَا فِي الْأَعْيَانِ مُغَايِرًا لِمَا فِي الْأَذْهَانِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْمَاهِيَّةِ مَا فِي الذِّهْنِ أَوْ الْخَارِجِ أَوْ كِلَاهُمَا وَكَذَلِكَ بِالْوُجُودِ فَاَلَّذِي فِي الْخَارِجِ مِنْ الْوُجُودِ هُوَ الْمَاهِيَّةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ وَكَذَلِكَ مَا فِي الذِّهْنِ مِنْ هَذَا هُوَ هَذَا لَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْئَانِ.